رواية انت لي تكملة الحلقة الثامنة و الثلاثون
اصطحبنا حسام بسيارته الصغيرة الضيقة إلى السوق و ظل مرافقا لنا طوال الوقت…
قضينا فترة لا بأس بها هناك ومع ذلك لم يبدِ تذمرا! بل كان غاية في اللطف و التعاون، و السرور كذلك…!
اشتريت العديد من الأشياء…
تعرفون أنه لم يعد عندي ما يكفي من الملابس و الحاجيات … و أن أشيائي قد احترقت في بيتنا الحزين… و أن القليل الذي اقتنيته لاحقا تركته في المزرعة
كنت أنفق بلا حساب! فالمبلغ الذي تركه وليد معي… كبير و مغر ٍ…
حقيقة شعرت بالخجل و أنا آخذ ظرف النقود منه، و لكنني بالفعل بحاجة إليها… و حتى النقود التي تركها لي أبي رحمه الله قبل سفره إلى الحج، و التي لم أنفق منها ما يذكر، احترقت في مكانها في البيت…
و حتى بقايا رماد البيت المحروق… لم يكن لي نصيب في ورثها…
بعد أن فرغنا من مهمة التسوق اللذيذة عدنا إلى المنزل و ارتديت بعضا من أشيائي الجديدة شاعرة بسعادة لا توصف
فيما بعد… قررنا أنا و خالتي و أبناؤها التنزه في حديقة المنزل…
أبو حسام كان يحب حديقة منزله و يعتني بها جيدا، و بعد أن احترقت شجيراتها في القصف الجوي آنفا، أعاد زراعة و تنظيم الأشجار و العشب… و دبّت الحياة في تلك الحديقة مجددا..
الجو كان لطيفا و أنسام الهواء عليلة و نشطة… الشمس قد احمر ذيلها في الأفق… و تسابقت غيوم خفيفة على حجب حمرتها الأخاذة عن أعين الناظرين… بينما امتدت الظلال الطويلة على العشب… مضفية عليه خضرة نضرة…
المنظر من حولي خلاب و مبهج للغاية… إنها بدايات الشتاء…
فرشنا بساطا كبيرا على العشب الرطب، و جلسنا نحن الخمسة فوقه نتناول المكسرات و نتبادل الأحاديث… و نتسلى بلعبة الألغاز الورقية !
لقد كنت آنذاك مسرورة و مرتاحة… و غاية في الحيوية و المرح !
عندما فـُتـِحت البوابة، وجدت ُ حسام في استقبالي…
تبادلنا التحية و لم يحاول إخفاء علامات التعجب و الاستنكار الجلية على وجهه و هو يستقبلني دون سابق إعلام…
دعاني للدخول، فسرت إلى جانبه و أنا أشعر ببعض الحرج من زيارتي المفاجئة هذه…
هنا وصلتني أصوات ضحكات جعلتني التفت تلقائيا نحو المصدر…
على ب
ساط مفروش فوق العشب في قلب الحديقة كانت أربع نسوة يجلسن في شبه حلقه مستديرة…
جميعهن التفت إلي ّ لدى ظهوري في الصورة و جميعهن أخرسن ألسنتهن و بدين مندهشات !
غضضت بصري و تنحنحت ثم ألقيت التحية… و سمعت الرد من أم حسام مرحبة بي…
قال حسام :
” تعال شاركنا “
و هو يحثّني على السير نحو البساط… و أضاف :
” كنا نتسلى بالألغاز ! الجو منعش جدا “
وقفت شقيقة حسام الكبرى ثم الصغرى هامتين بالانصراف فقلت :
” كلا… معذرة على إزعاجكم كنت فقط أود إلقاء التحية و الاطمئنان على ابنة عمّي”
أم حسام قالت مباشرة :
” أي إزعاج يا وليد؟ البيت بيتك و نحن أهلك… تفضّل بني “
” شكرا لك خالتي أم حسام… أدام الله عزك “
كل هذا و عيني تحدّق في العشب في خجل…
و تمكنت من رفعهما أخيرا بحثا عن رغد… و رأيتها جالسة بين ابنتي خالتها… و هي الأخرى تبعثر نظراتها على العشب !
يا إلهي كم اشتقت إليها !… لا أصدق أنها أمامي أخيرا…
” كيف حالك يا رغد ؟ “
التفتت رغد يمنة و يسرة كأنها تبحث عن مصدر الصوت!
هذا أنا يا رغد ! هل نسيت صوتي ؟؟
ثم رأيتها تبتسم و يتورد خداها و تجيب بصوت خافت :
” بخير “
لم يكن جوابا شافيا ! أنا أريد أن أعرف تفاصيل كل ما حصل مذ تركتك ِ هنا تلك الليلة و حتى هذه اللحظة ! ألا تعلمين كم كنت مشغول البال بك ؟؟
” كيف تسير أمورك صغيرتي ؟ “
و ابتسمت ابتسامة أكبر… و قالت :
” بخير ! “
بخير … بخير !
كل هذا و هي لا ترفع نظرها عن العشب الرطب…
قلت :
” الحمد لله… “
قالت أم حسام :
” تفضّل بالجلوس “
قال حسام :
” سأصطحبه إلى المجلس … “
و خاطبني :
” تفضّل وليد “
لم أجد بدا من مرافقته … فذهبت تاركا عقلي مرميا و مبعثرا هو الآخر فوق ذات العشب !
في ذلك المجلس كان أبو حسام يشاهد الأخبار … و بعد الترحيب بي فتحنا موضوع المظاهرات و العمليات الاستشهادية النشطة و عمليات الاعتقال و الاغتيالات العشوائية التي تعيشها البلدة بشكل مكثف في الآونة الأخيرة…
و كذلك المنظمات السرية المعادية التي يتم الإيقاع بعملائها و زجّهم إلى السجون أو قتلهم يوما بعد يوم…
الأنباء أثارت في نفسي كآبة شديدة و مخاوف متفاقمة خصوصا بعد أن علمت من أبي حسام عن تورط بعض معارفه في إحدى المنظمات المهددة بالخطر…
و حكيت له الصعوبات التي واجهناها مع السلطات أثناء رحلتـَي ذهابنا و عودتنا إلى و من المدينة الساحلية…
و تعرفون كم أكره الشرطة و أرعب منهم…
فيما بعد… خرجنا نحن الثلاثة من المنزل قاصدين الذهاب إلى المسجد…
و نحن نعبر الحديقة رأيت رغد مع ابنتي خالتها و هن لا يزلن يجلسن على ذلك البساط و يلهون بأوراق الألغاز…
حسام هتف سائلا :
” من فاقكن ذكاء ؟ “
أجابت شقيقته الصغرى :
” رغد ! إنها ذكية جدا “
ضحك حسام و قال :
” استعيري شيئا منها ! “
و انطلقت ضحكة عفوية من رغد…
حسام قال بمرح :
“… سأغلبك ِ في الجولة المقبلة يا رغد ! استعدّي “
قالت رغد و هي تنظر إله بتحد :
” قبلت التحدّي ! “
حسام ضحك و قال بإصرار :
” سترين أنا عبقريتي… انتظري فقط ! “
و ضحكت رغد بمرح…
كل هذا و أنا… واقف أسمع و أتفرج و أخرس لساني و أكتم في صدري غضبا شديدا…
” فيم تحدّقين ؟ “
سألتني نهلة و هي تراني أحملق في البوابة… التي أغلقها حسام بعد خروجه و أبيه و وليد قبل قليل…
قلت :
” هل رأيت ِ كيف يبدو حسام إلى جانبه ؟ كواحد من الأقزام السبعة ! “
تعجّبت نهلة و بدا أنها لم تفهم شيئا !
قلت:
” أراهن أنه سيلحق بهما بسيارته… يستحيل على هذا الشيء أن يدخل سيارة شقيقك تلك! إلا إذا أخرج رأسه من فتحة السقف ! “
و أخذت سارة تضحك بشدّة !
لا أدري إن لشيء فهمته أو لشيء لم تفهمه!
وقفت ُ بعد ذلك و أخذت ُ أمدد أطرافي و استنشق الهواء العليل… شاعرة بسعادة تغمر قلبي… و برغبة هوسية في معانقة الهواء!
أخذت ُ أدندن بمرح… و أمشي حافية على العشب بخفة… كعصفور على وشك الطيران…
نهلة أصدرت أصواتا خشنة من حنجرتها للفت انتباهي فاستدرت إليها و وجدتها تراقبني باهتمام…
إنني أشعر بالدماء تتحرك بغزارة في شعيرات وجهي… و متأكدة من أنني في هذه اللحظة حمراء اللون !
” رغد يا صغيرتي كيف تسير أمورك ؟ “
قالت ذلك نهلة و هي تهب واقفة على أطراف أصابعها و تنفخ صدرها و ترفع كتفيها و تضغط على حبالها الصوتية ليظهر صوتها
خشنا، فيما تقطب حاجبيها لتقلّد وليد !
و مرة أخرى تنفجر سارة ضحكا… و تثير عجبي!
إنها غبية في أحيان كثيرة و لكن يبدو أن ذكاءها محتد هذا الساعة !
قلت موضحة :
” إنه يناديني بالصغيرة منذ طفولتي ما الجديد في ذلك ؟ “
و نهلة لا تزال قاطبة حاجبيها و تردد :
” رغد يا صغيرتي ! رغد يا صغيرتي ! رغد يا صغيرتي “
و سارة لا تزال تضحك !
قلت :
” و لأني يتيمة… فهو يعاملني كابنته! و طلب منّي اعتباره أبي ! “
و نظرت الفتاتان إلى بعضهما و ضحكتا بشدة !
قلت و أنا أولي هاربة :
” أوه… خير لي أن أذهب لتأدية الصلاة ! أنتما لا تطاقان ! “
لم يكن لحضور وليد قلبي أي هدف غير الاطمئنان علي، لذا فإنه هم بالمغادرة بعد ذلك مباشرة لولا أن العائلة ألحت عليه لتناول العشاء معنا…
أنا أيضا كنت أريد منه أن يبقى فمجرد وجوده على مقربة… يمنحني شعورا لا يمكن لأي إنسان منحي شعورا مماثلا له
آه لو تعلمون…
كيف سارت حياتي بدونك يا وليد؟؟
كيف استطعت العيش طوال هذه الأيام بعيدة عنك؟؟
و كيف سأتحمّل رحيلك… و كيف سأطيق الذهاب معك ؟؟
بعد العشاء، وليد و حسام و أبوه خرجوا و جلسوا في الحديقة على نفس البساط الذي كنا نجلس عليه…
كان الجو رائعا تلك الليلة، لا يقاوم…
و من داخل المنزل فتحت النافذة المطلة على الحديقة سامحة لنسمات الليل و ضوء القمر، و الأصوات كذلك، بالتسلل إلى الداخل… بينما أنا أراقب عن كثب… تحركات وليد !
كان وليد غاية في الأدب و اللباقة… كان قليل الحديث أو الضحك… مغايرا لحسام المزوح الانفعالي…
و بدا فارق السن بينهما جليا في طريقة حديثهما و تحركهما بل و حتى في الطريقة التي يشربان بها القهوة !
بإدراك أو بدونه… كنت أسترق السمع إلى أي كلمة تخرج من لسان وليد و أراقب حتى أتفه حركة تصدر منه… بل و حتى من خصلات شعره الكثيف و الهواء يعبث بها …
” ما الذي تراقبه الصغيرة الجميلة ؟ “
قالت نهلة و هي تنظر إلي بمكر… فهي تعرف جيدا ما الذي يثير اهتمامي في قلب الحديقة !
قلت بتحد :
” بابا وليد ! “
كادت تطلق ضحكة كبيرة لولا أنني وضعت كفي فوق فمها و كتمت ضحكتها
” اخفضي صوتك ! سيسمعونك ! “
أزاحت نهلة يدي بعيدا و مثلت الضحك بصوت منخفض و من ثم قالت :
” مسكين وليد ! عليه أن يرعى طفله بهذا الحجم ! “
و فتحت ذراعيها أقصاهما… كنت ُ أعرف أنها لن تدعني و شأني … هممت ُ بإغلاق النافذة فأصدرت صوتا… فرأيت حسام يلوّح بيده نحونا و يهتف :
” رغد… تعالي “
تبادلت و نهلة النظرات و بقيت مكاني…
قال حسام :
” وليد يرغب في الحديث معك “
عندها ابتعدت عن النافذة و وضعت يدي على صدري أتحسس ضربات قلبي التي تدفقت بسرعة فجأة…
نهلة نظرت إلي من طرف عينيها و قالت مازحة ساخرة :
” هيا يا صغيرتي المطيعة … اذهبي لأبيك “
و لما لم تظهر على وجهي التعبيرات التي توقعتها بدا الجد في نظراتها و سألتني:
” ما الأمر ؟؟ “
قلت و أنا مكفهرة الوجه و يدي لا تزال على صدري :
نظرت إلي نهلة باستغراب… بالطبع سيغادر… و جميعنا نعلم أنه سيغادر!… ما الجديد في الأمر…؟؟
قلت :
” لا أريده أن يبتعد عني يا نهلة… لا أحتمل فراقه… أريده أن يبقى معي… و لي وحدي… أتفهمين ؟؟ “
في وسط الحديقة… على العشب المبلل برذاذ الماء… و بين نسمات الهواء الرائعة المدغدغة لكل ما تلامسه… و تحت نور باهت منبعث من القمر المتربع بغرور على عرش السماء… وقفنا وجها لوجه أنا و وليد قلبي…
لأصف لكم مدى لهفتي إليه… سأحتاج وقتا طويلا… و لكن الفرصة ضئيلة أمامي… و العد التنازلي قد بدأ…
حسام و أبوه دخلا المنزل تاركـَين لنا حرية الحديث بمفردنا… و إن كنت لا أعرف أي حديث سيدور في لحظة كهذه …؟
نسمات الهواء أخذت تشتد و تحوّلت دغدغاتها إلى لكمات خفيفة لكل ما تصادفه
وليد بدأ الحديث من هذه النقطة :
” يبدو أن الريح ستشتد… إنه إنذار باقتراب الشتاء ! “
” نعم… “
” المكان هنا رائع… “
و هو يشير إلى الحديقة من حوله…
” أجل… “
و نظر إلي و قال :
” و يبدو أنك تستمتعين بوقتك هنا… “
هززت رأسي إيجابا…
قال بصوت دافئ حنون :
” هل أنتِ … مرتاحة ؟ “
قلت بسرعة :
” بالطبع… “
ابتسم برضا … ثم قال :
” يسرني سماع ذلك… الحمد لله “
هربت من نظراته و سلطت بصري على العشب… ثم سمعته يقول :
” ألا… تريدين… العودة إلى المزرعة ؟ “
رفعت رأسي بسرعة و قد اضطربت ملامح وجهي…
وليد قال بصوت خافت :
ثم أضاف :
” أريد راحتك و سعادتك يا رغد… و سأنفذ ما ترغبين به أنت ِ مهما كان… “
قلت موضحة :
” أنا مرتاحة هنا بين أهلي… “
و كأن الجملة جرحته … فتكلّم بألم :
” أنا أيضا أهلك يا رغد… “
تداركت مصححة :
” نعم يا وليد و لكن … و لكن … “
و ظهرت صورة الشقراء مشوهة أي جمال لهذه اللحظة الرائعة …
أتممت :
” ولكنني… سأظل أشعر بالغربة و التطفل هناك… لن يحبني أحد كما تحبني خالتي و عائلتها… و لن أحب أحدا لا تربطني به دماء واحدة …”
نظر إلي ّ وليد بأسى ثم قال :
” تعنين أروى …؟ “
فلم أجب، فقال :
” إنها تحبك و كذلك الخالة… و هما تبعثان إليك بالتحيات “
قلت :
” سلّمهما الله… أنا لا أنكر جميلهما و العجوز علي… و لو كان لدي ما أكافئهم به لفعلت… لكن كما تعلم أنا فتاة يتيمة و معدومة… و بعد رحيلهما لم يترك والداك لي شيئا بطبيعة الحال… “
و هنا توتر وليد و قال باستنكار :
” لم تقولين ذلك يا رغد ؟؟ “
قلت مصرة :
” هذه هي الحقيقة التي لا يجدي تحريفها شيئا… أنا في الحقيقة مجرّد فتاة يتيمة عالة على الآخرين… و لن أجد من يطيقني و بصدر رحب غير خالتي “
و ربما أثرت جملتي به كثيرا… فهو قد لاذ بالصمت لبعض الوقت… ثم نطق أخيرا:
” على كل… لا داعي لأن نفسد جمال هذه الليلة بأمور مزعجة… “
ثم ابتسم ابتسامة شقّت طريقها بين جبال الأسى و قال:
” المهم أن تكون صغيرتي مرتاحة و راضية… “
قال :
” حسنا… يجب أن أذهب الآن قبل أن يتأخر الوقت أكثر… “
تسارعت ضربات قلبي أكثر… لم أكن أريده أن يرحل… ليته يبقى معنا ليلة واحدة…أرجوك لا تذهب يا وليد…
قال :
” أتأمرين بأي شيء ؟ “
ليتني أستطيع أمرك بألا ترحل يا وليد !
قلت :
” شكرا لك “
كرر سؤاله :
” ألا تحتاجين لأي شيء ؟ أخبريني صغيرتي أينقصك أي شيء؟؟ “
” كلا… “
” لا تترددي في طلب ما تحتاجينه منّي… أرجوك رغد… “
ابتسمت و قلت :
” شكرا لك… “
وليد أدخل يده في جيبه ! أوه كلا ! هل يظن أنني أنفقت تلك الكومة من النقود بهذه السرعة ؟ لست مبذرة لهذا الحد !
كدت ُ أقول ( كلا ! لا أحتاج نقودا ) لكنني حين رأيت هاتفه المحمول يخرج من جيبه حمدت الله أن ألجم لساني عن التهور !
و للعجب… وليد قدّم هاتفه إلي ّ !
” ابقي هذا معك… اتصلي بي في المزرعة متى احتجت لأي شيء…”
نظرت إليه باندهاش فقال :
” هكذا استطيع الاتصال بك و الاطمئنان على أوضاعك كلما لزم الأمر دون حرج”
بقيت أحدق في الهاتف و في وليد مندهشة …
” و … لكن … !! “
صدر التلكين منّي فقال وليد :
” لا تقلقي، سأقتني آخر عاجلا… يمكنني الاستغناء عنه الآن … خذيه “
و بتردد مددت يدي اليمنى و أخذت الهاتف فيما وليد يراقب حركة يدي بتمعن !
قال :
” لا تنسي… اتصلي بي في أي وقت… “
” حسنا… شكرا لك “
وليد ابتسم بارتياح… ثم بدا عليه بعض الانزعاج و قال :
” سأنصرف الآن و لكن… “
و لم يتم جملته، كان مترددا و كأنه يخشى قول ما ود قوله… تكلمت أنا مشجعة :
” لكن ماذا وليد ؟؟ “
أظن أن وجه وليد قد احمر ! أو هكذا تخيّلته تحت ضوء القمر و المصابيح الليلية الباهتة…
وليد أخيرا نظر إلى عيني ثم إلى يدي الممسكة بالهاتف ثم إلى العشب… و قال:
ذهلت… و كاد قلبي يتوقف… و حملقت في وليد باندهاش …
وليد تراجع ببصره من العشب، إلى يدي، إلى عيني ّ و واصل :
” و لا داعي لوضع الخواتم في حال وجودهما… “
الدماء تفجرت في وجهي … طأطأت ُ برأسي نحو الأرض في حرج شديد… توقفت أنفاسي عن التحرك من و إلى صدري و إن ظلّت الريح تعبث بوجهي و وشاحي الطويل… في حين حاولت يدي اليسرى تغطية خاتمي الفيروزي الجديد في يدي اليمنى …
وليد حاول تلطيف الموقف فقال مداعبا :
” و لكن افعلي ما يحلو لك ِ في غيابنا “
ثم قال مغيرا المسار و خاتما اللقاء :
” حسنا صغيرتي… أتركك في رعاية الله … “
~~~~~~~~
توالت الأيام، و الأسابيع … و أنا منغمس في العمل …
و اقتضى مني الأمر السفر إلى المدينة الساحلية من جديد… و لأن أروى لم تشأ مرافقتي، لم استطع أخذ رغد معي و السفر بمفردنا… و رغم أن الأمر كان غاية في الصعوبة إلا أنني دست على مشاعري و قلقي و تركت رغد دون رعايتي و سافرت بعيدا…
قبل سفري اتصلت بشقيقي سامر و طلبت منه أن يبقى على مقربة و اتصال دائمين من رغد و قد تعذّر بانشغاله في عمله و لكنه وعد بفعل ما يمكن…
أما أنا فقد اقتنيت هاتفا محمولا جديدا لرغد أعطيتها إياه حين مررت منها قبل سفري و استعدت هاتفي، و طلبت منها أن تبقى على اتصال بي شبه يومي…
و أنا أعيش في المنزل الكبير هناك في المدينة الساحلية، شعرت بوحدة قاتلة و تقلبت علي الكثير من المواجع… و صممت على أن أعيد لهذا البيت الحياة و النشاط عما قريب…
حصلت على إذن من شقيقي ّ للتصرف المطلق بالمنزل، و الذي أصبح ملكا مشتركا لنا نحن الثلاثة، بعد وفاة والدي رحمه الله…
وكلت عمّال شركة متخصصة لتنظيفه كليا، و من ثم أعدت صبغه و جددت أثاثه و أجريت الكثير من التعديلات فيه… غير أنني تركت غرف نوم والديّ – رحمهما الله – و سامر و دانة و كذلك الحديقة الخلفية كما هي… و ركنت ُ في الحديقة بعض الأشياء القديمة إلى جوار أدوات الشواء… التي تعرفون…
~~~~~~~~~~رواية انت لي تكملة الحلقة الثامنة و الثلاثون
كنت معتزما على الانتقال للعيش الدائم في المنزل، و إليه سأضم رغد و سامر… و أروى مستقبلا…
و حين تعود دانة من الخارج، فلا أجمل من أن تنضم إلينا…
كنت أريد أن ألملم شمل العائلة المشتتة… و أن نعود للحياة معا كما كنا قبل أن تفرّقنا الحرب و ظروفها التعيسة…
و لأنني أصبحت أدير أحد أكبر و أهم مصانع المدينة، فإن نفوذي قد اتسع كثيرا و سلطتي قد ارتفعت لحد كبير…
و مع ذلك… لم تخل ُ المسألة من الهمز و اللمز… و النظرات الماكرة و الهمسات الغادرة ممن عرفوا بأنني قاتل عمّار… و استقال السيد أسامة من منصبة للأسف… إثر هذا الخبر… ولاء ً لصديقه الراحل عاطف… و انتشرت شائعات مختلفة حولي و حول زواجي من أروى… و وجدت نفسي أكثر وحدة و حاجة للدعم المعنوي و الفعلي ممن أثق بهم…
ألححت على سامر لترك عمله في تلك المدينة و عرضت عليه العمل معي في المصنع، و هيّأت ُ له منصبا مرموقا مغريا و لكن سامر كان مترددا جدا
أعربت له عن رغبتي في لم شمل العائلة من جديد… شرحت له بتفصيل دقيق ظروف عملي الحالي و كيف أن الحياة تبدلت معي كثيرا… و أنني الآن محتاج إليه أكثر… غير أن سامر على ما بدا منه كان لا يزال في حداد على والدي ّ لم يفق منه…
و بالنسبة لرغد فقد خططت لإلحاقها بإحدى الجامعات و خصصت ُ جزء ً من دخلي الخاص من إدارة المصنع لتغطية تكاليف الدراسة…
أما المنزل المحترق، فقد أبقيناه على حاله حتى إشعار آخر… و تنازلت عن نصيبي فيه وسجلته باسمها أيضا…
أما عن أوضاع البلاد… فلا تزال الفوضى تعم العديد من المدن و تقتحم المزيد… و السجون قد امتلأت و فاضت بالمعتقلين عدلا أو ظلما…
عندما عدت ُ إلى المدينة الصناعية في المرة التالية، كانت رغد خارج المنزل و استقبلتني أم حسام استقبالا كريما
رغد كانت قد أعلمتني عن رغبتها في قضاء بعض المشاوير الضرورية ذلك اليوم – وهي تعلمني عن تحركاتها دائما، و قد لاحظت ُ تكرر ذلك مؤخرا – و رغم انزعاجي من الأمر تركتها تخرج مع ابن خالتها مطمئنا إلى وجود ابنتي خالتها معها
و عندما علمت بعد ذلك أنهما لم ترافقاها أصبت بنوبة غضب …
” و هل هي معتادة على أن يوصلها حسام إلى حيث تريد، بمفردهما ؟”
وجهت سؤالي المستنكر إلى أم حسام ففهمت استهجاني و أجابت:
قلت حانقا :
” و لكن لماذا لم ترافقها إحدى ابنتيك يا خالتي ؟ “
قالت:
” نهلة منهمكة في تعليم سارة دروسها الصعبة… و لكن لم كل هذا الانزعاج يا بني؟ إنه ابن خالتها و أقرب الناس إليها “
و لم تعجبني هذه الكلمة… فالتزمت الصمت.
و يبدو أن أم حسام وجدتها فرصة ملائمة لطرح موضوع ما فتئ يشغل تفكيرها و ربما تفكيرنا جميعا …
” وليد يا بني… ألا ترى أن الأوان قد حان… حتى نربط بينهما شرعيا ؟ “
كنت أخشى أن تفتح الموضوع خصوصا و أنا في وضعي الراهن…
قلت مباشرة :
” إنه ليس بالوقت المناسب “
قالت :
” لماذا ؟ يهديك الله … أليس ذلك أفضل لنا جميعا؟ ها هما يعيشان في بيت واحد و تعرف كيف هي الأمور… “
قلت بغضب :
” كلا يا خالتي. يستحيل أن أزوّج رغد بالطريقة التي زوّجها والدي بها… لن أجعلها ضحية للأمر المفروض ثانية… “
أم حسام قالت معترضة :
” أي ضحية يا بني ؟ إنه زواج مقدّس… و حسام يلح عليّ لعرض الأمر لكنني رأيت تأجيله لحين عودتك… بصفتك الوصي الرسمي عليها “
نفذ صبري فقلت بفظاظة :
” أرجوك يا أم حسام… أجلي الموضوع لما بعد “
” لأي وقت ؟؟ “
قلت :
” على الأقل … إلى أن تحصل على شهادة جامعية و تكبر بضع سنين… “
تعجبت أم حسام… لكنني تابعت :
” و يكبر حسام و يصبح رجلا راشدا مسؤولا “
” و هل تراه صبيا الآن !؟ “
لم أتردد في الإجابة … قلت مباشرة :
” نعم ! “
و لأنها استاءت و هزت رأسها استنكارا أضفت :
” يا خالتي… أنا اعتبر الاثنين مجرد مراهقين… فالفرق بينهما لا يبلغ العامين… و إذا كان في وجودها هنا حرج على أحد فأنا سآخذها معي و أدبر أمورها بشكل أو بآخر… “
عند هذا الحد انتهى حوارنا إذ أن البوابة قد فتحت و أقبل الاثنان يسيران جنبا إلى جنب…
الناظر إليهما يفكر في أنهما خطيبان منسجمان متلائمان مع بعضهما البعض… و كان يبدو عليهما المرح و البسمة لم تفارق شفاههما منذ أطلا من البوابة…
هذا المنظر أوجعني كثيرا… لو تعلمون…
أقبل الاثنان يرحبان بي بمرح… و كان جليا عليهما السرور… و لا أظن أن السرور كان بسبب قدومي… بل بسبب آخر أجهله للأسف…
رغد كانت مبتهجة جدا… و كانت فترة طويلة قد مضت مذ قابلتها آخر مرة… و فيما أنا هناك أتحرق شوقا إليها و قلقا عليها، تقضي هي الوقت في المرح مع ابن خالتها هذا…
و شتان بين البهجة التي أراها منفتحة على وجهها الآن و بين الكآبة و الضيق اللذين لطالما رافقاها و هي تحت رعايتي… الشهور الماضية…
” تبدين في حالة ممتازة… واضح أن خالتك و عائلتها يعتنون بك جيدا “
قلت متظاهرا بالبرود و العدم الاكتراث
ابتسمت هي و قالت :
” بالطبع “
أما حسام فضحك و قال :
” و ندللها كثيرا و نضع رغباتها نصب أعيننا ! إنها سيدة هذا المنزل ! “
رغد نظرت إليه و قالت بمرح :
” لا تبالغ ! “
قال مؤكدا :
” بل أنت ِ كذلك و ستظلين دائما كذلك ! “
فيما بعد… تناولت القهوة مع حسام في المجلس… و رأيتها فرصة متاحة أمامي فسألته عن خططه المستقبلية و تطلعاته للغد… فوجدته للحق شابا طموحا متحمسا متفائلا بالرغم من طبعه المرح….
كنت حريصا على أن أعرف… إلى أي مدى كانت فكرة الزواج من رغد… لا تزال تسكن رأسه…
سألته :
” و … ماذا بشأن الزواج ؟ “
حسام ابتسم و قال :
قلت :
” و … هل أنت مستعد له ؟ “
تهللت أسارير حسام و كأنه فهم منّي إشارة إلى موضوعه القديم… فقال فرحا:
” للخطوبة على الأقل… لا شيء يمنع ذلك “
و انتظر منّي التأييد أو حتى الاعتراض، غير أنني بقيت صامتا دون أي تعليق… مما أثار فضول حسام الملح و دفعه للسؤال المباشر:
” ألديك مانع ؟ “
قلت متظاهرا بعدم الاكتراث :
” عن أي شيء؟ “
” عن… الخطوبة… في الوقت الراهن…؟ “
إذن… فأنت متلهّف للزواج من ابنة عمّي ؟؟
تجاهلت سؤاله وأنا أحترق في داخلي… و أفكر في الرسالة الهامة التي يجب أن تصل إلى هذا الشاب المندفع حتى يتوقف عن التفكير برغد…
حسام لما رأى صمتي قد طال عاد يسأل :
” هل توافق على خطوبتنا الآن ؟ “
نظرت إليه بحدقتين ضيقتين ضيق صدري المثقل بشتى الهموم… ثم هززت رأسي اعتراضا…
شيء من الحيرة و الضيق علا وجه حسام الذي قال:
” لماذا؟ “
الجد طغى على وجهي و أنا أقول أخيرا :
” اسمعني يا حسام… فكرة الزواج التي تدور في رأسك هذه استبعدها نهائيا خلال السنوات المقبلة… لأنني لن أوافق على تزويج ابنة عمي قبل أن ألحقها بإحدى الجامعات… و تحصل على شهادة جامعية… لا تطرح الموضوع ثانية… قبل ذلك… هل هذا واضح ؟؟ “
~~~~~~~
” ستذهب بهذه السرعة ؟ “
سألته و نحن نسير باتجاه البوابة و هو في طريقه للمغادرة بعد زيارته القصيرة لنا… بالرغم من طول الزمن الذي قضاه بعيدا عني…
وليد كان منزعجا جدا أو ربما متعبا من السفر… لم يكن على سجيته هذا اليوم…
” إنني مرهق جدا و بحاجة للراحة الآن… لكني سأعود قريبا يا رغد “
قلت بشيء من التردد :
” لم لا تقضي الليلة هنا ؟ سيرحب الجميع بذلك “
” لا شك عندي في كرم العائلة و لكني لا أريد أن أثقل عليهم … ألا يكفي أنهم يعتنون بك منذ زمن ؟؟ “
” لا تظن أن العناية بي تضايقهم يا وليد… إنهم يحبونني كثيرا “
” أعر ف ذلك “
وليد ألقى علي نظرة مبهمة المعنى ثم أضاف :
قلت متأكدة :
” لأقصى حد “
وليد تنهّد بضيق و قال :
” لكن الفترة طالت يا رغد… أما اكتفيت ِ ؟؟ “
نظرت إليه بتعجب … جاهلة ما المقصود من كلامه… فأوضح :
” تعرفين أنني أبقيتك هنا بناء على رغبتك و إصرارك… من أجل راحتك أنتِ … لكنني غير مرتاح لهذا يا رغد… “
و بدا عليه الأسى و قلة الحيلة…
” لماذا ؟ “
سألته فأجاب :
” أنا لا أشعر بالراحة عندما لا تكونين تحت رعايتي مباشرة… إنني المسؤول عنك و أريد أن أتحمّل مسؤوليتي كاملة… يجب أن تكوني معي أنا… ولي أمرك “
قلت مباشرة :
” لكنني لا أريد العودة إلى المزرعة… أرجوك يا وليد لا ترغمني على ذلك “
و يظهر أن جملتي هذه أزعجته بالقدر الذي جعله يتوقف بعصبية يزداد ضيقا و يقول :
” أنا أرغمك ؟ رغد ماذا تظنينني؟ عندما أخذتك للمزرعة لم يكن لدي المال لأوفر لك سكنا يناسبك… و عندما أخذتك للمدينة الساحلية لم أكن أعلم كم من الوقت سأمضي هناك و لم أشأ تركك بعيدة عني… و ها أنا قد تركتك بعيدة كل هذا الوقت تنفيذا لرغبتك أنت… و تقديرا لشعورك أنت ِ … فهل لا قدرت شعوري أنا بالمسؤولية و لو لبعض الوقت ؟؟ “
الطريقة التي كان يخاطبني بها دقت في رأسي أجراس التنبيه… وليد لم يتحدّث معي كهذا مسبقا… بقيت كلماته ترن في رأسي لفترة
بعدها قلت برجاء :
” لا أريد العودة إلى المزرعة … أرجوك… افهمني “
تنهد وليد تنهيدة تعب و قال :
” لن آخذك إليها ما لم ترغبي في ذلك… و لكن… عندما أعود إلى المدينة الساحلية… يجب أن تأتي معي “
نظرت إلى الأرض مذعنة … دون أن أتحدّث…
” اتفقنا ؟ “
قلت باستسلام :
” نعم “
تنهّد وليد بارتياح هذه المرة… و قال :
” هذا جيّد “
ألقيت نظرة عليه فرأيت في عينيه بعض الامتنان… لكن التعب كان طاغ ٍ على قسمات وجهه… و مزيج من الضيق و القلق كان يتسلل من بؤبؤيه…
تنفس بعمق ثم قال :
” و مرة أخرى يا رغد… إذا احتجت ِ لأي شيء فأبلغيني أنا… و … رجاء يا رغد… رجاء… لا تخرجي ثانية مع حسام بمفردكما “
أثارتني الجملة و تعلّقت عيناي بعينيه في استغراب… ما الذي يظنه وليد و ما الذي يفكر به ؟؟
قلت مبررة :
” لقد أوصلني إلى الصالون و… “
بترت جملتي ثم قلت :
” لماذا ؟ “
وليد قال بضيق شديد :